الكتاب الخامس
التأمل البوذي
ما هو التأمل البوذي وماذا يراد منه ؟
ليس التأمل البوذي نوعاً من الرياضيات الروحية التي يراد منها الأتصال بكائن اعلى او الحصول على قدرات خارقة كالمشي علي الماء والإرتفاع في الهواء وما الى ذلك. ولكنه رياضة يراد بها صحة الفكر كما ان التمرينات البدنية يراد بها صحة البدن.
انه لمن سؤ الحظ ان كثيرين من اصحاب البوذية وغير اصحابها يسيؤن فهم التأمل البوذي. فاذا ما وردت كلمة التأمل تبادر الى الذهن البعد من واقع الحياة والجلوس جلسة خاصة في مكان نائي منفرد والأستغراق في تأملات باطنية في غيبوبة او شبه غيبوبة. هذا ما يتبادر الى الذهن عن فكرة التأمل وهو أبعد ما يكون عن تعاليم البوذا.
واننا لنجد اغلب الناس يجرون وراء التأمل البوذي رغبة في الحصول على قوى روحية خارقة كالعين الثالثة وغيرها. وقد كان في الهند راهبة تحاول ان ترى بأذنيها مع ان عينيها كانتا صحيحتان. وهذه المحاولة واشبابها يمكن ان نسميها بالأنحراف الروحي.
ان كلمة تأمل في اللسان البالي تعني تهذيب او تطوير الفكر وغايته تنقية الفكر من المضايقات كالأشتهاء والبغضاء وسؤ النية والقلق والشكوك وتنمية صفاة التركيز واليقظة والمواظبة وملكة التحليل واليقين والفرح والسكينة التي تقود الى بلوغ الحكمة وصدق الرؤيا ومعرفة الأشياء على حقيقتها والوصول الى الحق الأسمى والنرفانا.
وهناك في الواقع نوعان من التأمل: التأمل الذي ينمي قوى التركيز وحصرها في موضع واحد. وله اساليب كثيرة تصل جميعها بالتأمل الى حالات عليا من الصفاء. ولكنها لا تصل به إلى الحق الأسمى او النرفانا وكان هذا النوع موجوداً في الهند قبل البوذا وفي عصره وربما مارسه فيما مارس من تأملات قبل استنارته. ولكنه لم يقف عنده بل تجاوزه الى تأمل البصيرة الذي يحرر الفكر ويصحح الرؤيا ويقود الى الحق الأسمى والنرفانا وهو التأمل البوذي الصحيح وهو يقوم على الطريقة التحليلية التي ترتكز على التفكير الكامل واليقظة وليس من السهل ايفاء هذا الموضوع حقه في هذه الصفحات فحسبنا ان نعطي القارئ فكرة موجزة عنه. لقد جاء الكلام عن تأمل البصيرة في إحدى الوعظات الهامة التي تنسب الى البوذا. ويكثر البوذيون من تلاوتها في كثير من المناسبات في خشوع عميق. كما يتلوها الرهبان بجوار المريض المحتضر لتطهير افكاره.
والعظة ذات اقسام اربعة: القسم الأول يختص ببدن الإنسان والثاني بأحاسيسه والثالث بفكره والرابع يتناول موضوعات اخلاقية وذهنية مختلفة.
وأكثر الطرق انتشاراً طريقة تأمل البدن او تأمل الشهيق والزفير. وهذه الطريقة تحتاج الى جلسة خاصة. اما الطرق الثلاث الباقية فيمكن للمتأمل ممارستها واقفاً او قاعداً أو مستلقياً على السرير أو ماشياً على الأقدام.
ان الطريقة الأولى تحتاج كما قلنا الى جلسة خاصة تتخالف فيها القدمان وهذا يصعب على بعض الناس سيما أهل الغرب وهؤلأ يمكنهم الجلوس على كرسي جلسة مستقيمة في غير استرخاء وقد أراح الجالس البدين على حجره واغلق العينين ثم بدأ يلاحظ تنفسه وليدع فكره يتركز على النفس الداخل والخارج ويتابعه وقد يكون النفس طويلاً أو قصيراً ولكن لا يهم. المهم ان يتنفس بغير كلفة وعليه ان يلاحظ حركة تنفسه بدقة. وفي هذه المحاولة ينسى الإنسان ما حوله من اشياء إذ يقفل عينيه حتى لا ترى شيئاً ويداوم على هذا خمس أو عشر دقائق.
وقد يجد الأنسان في محاولته الأولى شيئاً من العناء في التركيز على تنفسه ومتابعته بفكره. فالفكر كثير الشرود فترد على الفكر اشياء كثيرة. وترد على الأذن اصوات كثيرة ويحصل اضطراب وارتباك ذهني. ولكن مع الأستمرار في ممارسة التأمل لعدة دقائق صباح ومساء كل يوم مع التركيز على حركة التنفس سيجد الأنسان فكرة متركزاً تركيزاً تاماً ولو لبضع ثواني لا يسمع فيها صوتاً ولا يحس بوجود خارج مكانه. وهذه الثواني القليلة تكون تجربة جديدة رائعة بالنسبة له مملؤة بالفرح والسكينة.
هذا النوع من التأمل ربما كان من أبسط وأيسر انواع التأمل. أما النوع الثاني فهو تأمل الإلمام بكل ما تقوم به من عمل من اعمال الحياة اليومية فسواء كنت قائماً أو نائماً واقفاً أو ماشياً حين تلبس ملابسك وحين تخلعها حين تأكل وحين تشرب وحين تصمت وحين تتكلم. في كل حالة من هذه الحالات يجب ان تكون محيطاً بما تقوم به. بمعنى آخر يجب ان تعيش حياتك لحظة لحظة وأن تعيش في الحاضر الذي بين يديك وهذا ما لا يمارسه إلا قلة من الناس أما اكثرهم فيعيشون في الماضي تارة وفي المستقبل اخرى وقلما يلتفتون الى ما بين ايديهم ولذلك يحسون بالتعاسة وعدم الرضى. وهذا الصنف كثيراً ما يصادفك في حياتك اليومية فهذا رجل يتناول طعام الأفطار وهو يقرا الأخبار في الصحيفة اليومية فلا تدري أهو يتناول طعام الأفطار أم يقرأ الصحيفة وهو في حقيقة الأمر لا يفعل هذا ولا ذاك على الوجه الأمثل فلا يقرأ كما يجب أن تكون القراءة ولا يستطعم الطعام كما يجب أن يستطعم الطعام. فهو مضطرب الفكر مشتت وذلك لأنه لا يعيش في حاضره.
لقد سؤل البوذا مرة: لماذا ترى تلاميذك يعيشون في بساطة وسكينة ويثر مع انهم لا يجودون إلا وجبة واحدة من الطعام طيلة اليوم؟ فأجاب البوذا : ذلك لأنهم لا يندمون على ما فات ولا يتطلعون الى ما هو آت ولكنهم يعيشون في الحاضر ولذلك فهم دائماً فرحون.
والآحاطة بما يقوم به الأنسان من نشاطات لا تعني تفكيرك في نفسك بأن تقول ها انا افعل كذا وكذا ولكن بالعكس. ففي اللحظة التي تبدأ أن تفكر على هذا النمط تكون قد بدأت تعيش في - ألأنا - بدلاً من أن تعيش في عملك الذي تؤديه. ولذلك فالواجب أن تنسى نفسك نسياناً تاما ًوأن تغرقها في العمل الذي بين يديك فالخطيب مثلاً اذا فكر في الجمهور الذي يخاطبه شرد فكره واضطرب أما اذا نسى نفسه ومن حوله واندمج في موضوعه الذي يعالجه أنطلق في خطابته فايقن واجاد. واذا تأملنا جميع الأعمال الفنية الرائعة وجدناها وقد أنبعت في مثل هذه اللحظات الخلاقة التي ينسى فيها الفنان نفسه في فنه.
وتأتي الى القسم الثالث من التأمل الى تأمل الأحاسيس من سرور ونكد أو اذا انتابك شعور بحزن. فأبدأ أولاً بالبحث عن سبب هذا الشعور كيف نشأ وما سبب نشأه وكيف يختفي وما سبب اختفائه وحاول ان لا تفحص ذلك وكأنك خارج هذا الأحساس فحصاً موضوعياً متناسياً فكرة - الأنا - فاذا افلحت في هذا الفحص انجلت عن فكرك غيوم الحزن وتحررت منه تماماً.
والقسم الثالث يتناول التأمل في افكارنا. يجب أن تكون على احاطة تامة عندما تساورنا افكار الغضب أو سؤ النية أو الحسد أو الحب وأن لا ندعها تصدمنا بأهوائها وتتغلب علينا. فمجرد الأحاطة بالفكر الذي يساورنا يجعلنا نملك السيطرة عليه فينسحب في الميدان منهزماً. وهنا يجب أن تلاحظ افكارك وكأنها خارجة منك وكأن الأنسان الغاضب أو الحاسد أو الحزين شخص اخر سواك.
والقسم الرابع يتناول التأمل في الموضوعات الأخلاقية أو الذهنية الناتجة من دراساتنا ومناقشاتنا وملاحظاتنا. فأذا قرأت كتاباً ثم بدأت تفكر جدياً في موضوعاته فأنت تمارس التأمل.
وهناك موضوعات كثيرة للتأمل قد تتجاوز الأربعين عداً. وكلها تحتاج الى ممارسة جادة دائبة والى مران طويل تحت أرشاد معلم ماهر متمكن في الحقائق البوذية. وللتأمل مراكز خاصة في سيلان وبورما تحت ارشاد رهبان متخصصين.