غوتاما وزمنه
ولد غوتاما الملقب - فيما بعد الأستنارة - بالمستنير في القرن السادس قبل الميلاد في بيت من بيوت الملك في شمال الهند ولكي نفهم رسالته حق فهمها كان لزاماً علينا ان نتعرف على نوع الثقافة التي تلقاها والحياة التي كان يحياها والأفكار التي كانت تشغل اذهان المفكرين والنساك في زمنه.
وحرى بنا ان لا ننسى ان الأمير غوتاما ولد في ظل الديانة الهندوكية تشبع باًدابها ومارس شعائرها. وخالط كهانها وعايش نساكها وجادل فقهائها وسار سيرة زهادها ست سنوات طوال حتى بلغ الأستنارة تحت شجرة البودهي ولقب بالمستنير.
وحرى بنا ايضاً أن لا ننسى انه لم يكن آنذاك في الهند بوذية ولا بوذيون. وحتى بعد الأستنارة لم يكن يلقب إلا بالطثفاتة وتعني "الواصل" او المعارف. ولذلك رأينا قبل ان نبدأ الكلام عن الحقائق الأربع السامية التي هي لب لباب البوذية ان نبدأ أولاً بالكلام عن الزمن الذي ولد فيه غوتاما والثقافة التي تلقاها والتيارات الفكرية التي سادت العالم المتمدين في زمنه.
رياح التغيير في الصين
كان القرن السادس قبل الميلاد المسيح نقطة تحول هائل في الأفكار في العالم من الصين في أقصى الشرق إلى بلاد الهند وفارس واليونان. وكأن موجة فكرية عارمة قد شملت الفكر الأنساتي كله وهزته من أعماقه. بل أحسب أن القرن السادس هذا كان فترة من تلك الفترات التي تنتهي عندها دورة من دورات الزمن لتبدأ أخرى او كما يقول المعلم الصيني لاتسو تعود الى البداية ففي رأيه ان العودة من سنة الله وهذه النظرية نظرية العودة الى الأصل. ففي لكل بداية نهاية وفي كل نهاية بداية. نرى في الضعف احتمال القوة ونرى في القوة ضعفاً في نهاية المطاف. وكما ان الليل والنهار يتعاقبان كذلك عندما يبلغ الأنسان مدى القوة يعود الى الطبيعة وعندما يصل الى القمة يبدأ الهبوط الى السفح.
قدمنا بهذا الكلام عن الدورات لنقول ان القرن السادس كان نقطة تحول في الصين والهند. فأننا نجد ان رياح التغيير قد هبت على الصين في مطلع القرن السادس قبل الميلاد وذلك عندما بلغت الأداب الكنفوشية غايتها في السيطرة على النفوس. فكان الصيني مثلاً يُضرب للمحافظة على حب القديم وعلى تكريم الأسلاف اذ وضعت الأداب الكنفوشية قوالب وانماط لكل حال من حالات الحياة من الولادة الى الممات. فهناك طقوس ومراسيم ثابتة لحالات الفرح والحزن والعبادة والمأكل والمشرب والملبس. وكان الناس تحت سلطان الكنفوشية اشبه بالصينيات اللاتي كن يحبسن اقوامهن في احذية الحديد لكي لا تنمو فيذهب جمالهن في ما كان يزمعون.
في هذه الفترة التي وصفنا ظهر المعلم لاتسو بمذهب جديد
هو مذهب "القاو" فطرح كل هذه التقاليد والعبادات والطقوس الى البحر ودعا
الناس الى العودة الى الطبيعة وكان يؤثر الوديان على القمم والصمت على الكلام
والفراغ على الأمتلاء والسكون على الحركة.
وكان يتهكم على كنفشيوس فيقول انه يحمل صندوقاً به عظام نخرة إشارة الى
تمسكه بأراء السلف. ومن كلمات لاتسو
الشهيرة - وهي تلذعك احيانأ بقرابتها وتزعجك احيانأ بتناقضها - قوله :
الذي يعرف لا يتكلم. والذي يتكلم لا يعرف
الكلام الصادق غير جميل. والكلام الجميل غير صادق
الألوان الخمسة تبهر العيون. والأصوات الخمسة تصم الأذن
والمذوقات الخمسة تفسد الشهية.
وكما كانت رسالة المعلم لاتسو في بداية القرن السادس رجعة الى الطبيعة أو إلى الأصل وتحريراً للفكر من قيود الماضي كذلك كان القرن السادس نقطة تحول للأفكار في الهند إذ كانت قد بلغت الديانة الهندوكية ذروة سلطانها فكان البراهمة هم حفظة الديانة ومفسرو الفيدات. واصحاب السلطان في كل حالة من حالات الحياة من ميلاد وزواج ومعاش وممات. وكانوا هم الذين يقدمون القرابين.
اما الفيدات التي ذكرناها انفاً فهي كتب الهندوكية التي يضعونها موضع التقديس وينسبون لها قدمأ كقدم الخليقة غير ان العلماء في هذا العصر يقدرون لها زمناً يتراوح بين 2500 الى 700 سنة قبل الميلاد. وهي تحتوي على ابتهالات ومدائح للأرباب التي تمتلئ بها الثيولوجية الهندية التي تكاد تشبه ارباب الأولمب في بلاد اليونان وكلها من قوى الطبيعة كالشمس والقمر والنار والماء والهواء والفجر والمطر وغيرها من القوى التي يخشاها الأنسان ويترضاها بالدعوات والقرابين وكانت القرابين تقدم من الزبد واللبن والحبوب المطبوخة والشراب تلقى جميعأ في النار. كما كانت تقدم الضحايا من الماعز والخيل في احايين.
الأوبفيشادات
وفيما بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد ظهرت الأوبفيشادات: والكلمة اوبفشاد معناها القرب باحترام وتعني جلوس طالب الحكمة الى شيخه يتلقى منه الحكمة السامية. وتأتي الأوبشادهت في نهاية الفيدات الأربع وكأنها الخلاصة الخالصة لكل العبادات. وهي كثيرة العدد تجاوزت المائة عددأ ولكن العلماء اختاروا منها عشرة اناشيد حظيت بالعناية والحفظ والتفسير وبعض هذه الأناشيد الغاز او كالآلغاز. وبعضها ساذج سذاجة الأطفال وهي في مجموعها ترجمان صادق للفكر الهندي في عصر غوتاما. وقد تململ من وطأة النظام البرهمي الذي كان سائدأ انذاك وبدأ يتشكك في صلاحية الضحايا والقرابين التي تقوم حسب الطقوس الفييدية. وراح يتلمس طريقة للوحدة بعد التعدد والتأمل بعد الأبتهال والدعاء والتعاويذ وهذه المقتطفات من احدى هذه الأوبنشادات تعطيك فكرة موجزة عن الجو الفكري الذي كان يسود حلقات النساك والمتعبدين في ذلك الوقت وكانت في اغلب الظن تمثل جانباً غير يسير من جوانب الثقافة الروحية التي تثقف بها غوتاما.
الشك في صلاحية القرابين
كل هذه الأشكال المختلفة من الطقوس
والقرابين ليست بمراكب آمنة للخلاص
والجهلأء الذين يخالونها انها الأحسن
يعودون الى الهرم والموت.
المثوبة
الذين يظنون ان الفرائض والقرابين
هي كل شيئ مخدوعون حقاً
فعندما تنتهي مثوبة اعمالهم
يعودون الى عجلة الحياة او ما هو اسوأ.
نور العالم
لا شمس تشرق هناك ولا قمر ولا نجوم
هذه الأنوار كلها غير مضيئة
والنار كذلك.
ولكن عندما يشرق - هو -
فكل شيئ يغدو مضيئاً
الكون كله يشرق بنوره - هو -
الأنهار والبحر
كما ان الأنهار تجري نحو البحر الكبير
فتختفي فيه
تاركة وراءها الأسم والشكل
هكذا العرف وقد تحرر
براهمن
انت هو النار
انت هو الشمس
انت هو النقاء
انت هو الهواء
انت هو السماء المزدانة بالنجوم
انت هو الماء
انت خالق الكل
انت الرجل والمرأة
انت هو الفتى والغناء
انت هو الشيخ الذي يدب على عصاه
انت هو الذي يرى في كل مكان
انت هو الفراشة السمراء
انت هو الكنار ذو العيون الخضراء
انت هو الرعود والبروق والأمواج
انت بلا بداية وراء الزمان والمكان
انت الذي نشأت منه العوالم الثلاثة
براهمن يملأ كل ما يرى
براهمن يملأ كل ما لا يرى
براهمن يفيض على كل ما هو كائن
منه كل شيئ
وهو كما هو.
هذه خلاصة الفكر الهندي عندما ظهر غوتاما وهذه الأناشيد تعتبر نموذجاً صادقاً لما كان يتردد في اجواء الغابات الهندية التي مُلئت بالنساك.
وانت - لا شك - واجد هذه المقطوعات احتجاجاً على الطقوس والعبادات البرهمية ولكنه احتجاج خفيف يهمس به الشيخ في اذن تلميذه وكأنه يهمس بسر من الأسرار. وجاء غوتاما المستنير فحول هذا الأحتجاج الخفيف الى صوت مدوي تردد في حديقة الغزلان في بتارس ذات صباح ثم ترددت اصداؤه بعد ذلك في سماء الهند كلها ثم تجاوزها الى خارج الهند جنوباً في سيلان وبورما وشرقاً الى سيام والصين واليابان وشمالاً حتى بلاد الثلج الدائم في شمال الهند.
وقد آن لنا ان نتسائل ماذا أخذ غوتاما من الديانة الهندوكية وماذا ترك.
لقد ترك الأعتقاد في قدسية الفيدات وسلطانها على النفوس.
وترك الأعتماد على العبادات والقرابين والطقوس كالأستحمام في نهر الكنج تطهيراً من الذنوب وكان يقول اذا كان الإستحمام في البحر يطهر الناس من ادران الخطايا فالسمك السابح في البحر اكثر طهراً من الأنسان.
وترك نظام الطبقات الذي كانت تحافظ عليه الديانة الهندوكية وفتح باب الخلاص لكل الناس. وكان يقول ليس بالميلاد يصير الأنسان برهمياً او منبوذاً ولكن بالعمل وحده يصير كذلك.
وترك الإسراف في تعذيب النفس والصوم المضني ولبس الخرق البالية والجلوس على الرماد او ما شاكل ذلك من ضروب التقشف المميت وسلك طريقاً وسطاً لا اسراف فيه ولا شذوذ.
وترك الكلام عن براهمن الذي أكثر فيه النساك الكلام. وقال عنهم انهم اشبه بالعاشق الذي يتحدث عن محبوبة لم يراها.
وقد أخذ غوتاما من الهندوكية قانون الكاما وقانون تعدد الميلاد.
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن الأن هل كان غوتاما المستنير يشعر بأنه بذلك يدعو الى دين جديد؟
ويجيب على هذا السؤال العالم الفيلسوف رادهاكرشنان فيقول ان البوذا ولد وترعرع وعاش ومات هندوكياً. فكان في رسالته يعيد إلى الأذهان التعاليم الفيدية الأصلية ففكرة العجلة الدوارة بالموت والحياة حسب قانون الكاما فكرة تشترك فيها كل المدارس الهندية. ولذلك فيمكن القول بأن البوذية لم تكن ديناً جديداً ولكنها فرع من شجرة الهندوكية. الشجرة برية نمت كما تنمو الآشجار البرية بغير تهذيب. اما البوذية ففرع منها تولى البوذا تهذيبه وتجذيبه الى ان يقول ان البوذا كالمسيح جاء ليكمل لا لينقض بمعنى اخر ان البوذا هو احد صناع الهندوكية الحديثة.
اما عن أثر التعاليم البوذية في الديانة الهندوكية فيصفه الكاتب الهندي ك.م.سن في كتابه عن الهندوكية بقوله:
لقد كانت لتعاليم البوذا أثرها على الهندوكية وأنه لمن الخطأ القول بأن البوذية اختفت من الهند بعد البوذا. فقد اثبتت الهندوكية قدرتها على ان تشمل هذه التعاليم وتجعلها جزءاً منها لذلك فهي تعتبر البوذا واحداً من رسل الأستنارة الذين يبعثون لهداية الناس من حين الى حين ولقد كان في الأونشيدات تراث مشترك تلتقي عنده الهندوكية والبوذية وتتماذجان في غير عناء.
مولــــــد
غوتاما
كيف نكتب عن مولده ولقد مضت خمسة وعشرون قرنا أو يزيد ، طواها نساج الزمن في دولابه الدوار وليس لما يطويه هذا النساج الدووب من نشر او رجوع لكنها رجعة في عالم الفكر الى بلاد الهند في القرن السادس قبل المسيح ترى فيها مبعث ذلك النور الذي اشرق على الهند ثم انتشر في اصقاع اسيا ثم شرقاً وغرباً في بقاع الارض جميعا حتى قال المؤرخون ان ثلث سكان العالم يتبعون طريق غوتاما المستنير.
ولكن من أين ياترى دليلنا في هذه الرحلة الى ذلك الماضي البعيد. ان تاريخ "البوذا" او المستنير لهو مزيج من الواقع والأســــاطير. مزجته ايد محبة خاشــــعة فجاء مزيجا سحريا. والتاريخ قد لا يرضى بهذا المزيج كل الرضى بل يريد الوقائع صرفا غير ممزوجة. واين لنا ذلك وكل ماكُتب عن البوذا انما كُتب بعد موته بقرنين او ثلاثة قرون. ثم ذلك بعد ان انتشرت تعاليم البوذا واصبح هو المرشد والمعلم والمعبود الذى تتجه اليه الملايين من البشر بالشكر والتأمل وتتخذ منه ومن شريعته ونساكه ملاذاً من الآم الحياة وسبيلا مأمونا للخلاص من عجلة الحياة التي تدور بلا انقطاع. وفي دورانها المرضى والهرم والموت والمولد بلا انتهاء.
ان التأريخ لا يعرف إلا القليل من سيرة البوذا فحسبنا هــــذا القليل.
كان الجزء ا لمأهول من الهند في القرن السادس قبل الميـــــلاد مقســــم الى ولايات او ممالك صغيرة وكانت مملكتا مجولا وكوسالا في الشمال من اهم هذه الممالك شأناً. وكانت مملكة كوسالا موطنًا لقبيلة الساكيا من طبقة المحاربين (الكشتاريه) وزعيمهم انذاك الراجــا سدهودانا. وكانت مدينة كايلافستـــو مقر هذاالملك الزعـــيم.
وفي عام 563 قبل الميلاد كانت الملكة ماية زوجة سدهودانا في طريقها الى بيت ابيها لتضع مولودها البكر وجاءها المخاض في الطريق فوضعته فى حديقة وتوفت امه بعد وقت قليل من الوضع فكفلت الطفل خالته التي اتخذها الملك فيما بعد زوجة له.
ووفد الى القصر الكهان والمنجمون على عادة ذلك الزمــــان يحسبون طالع المولود ويقرأون حظه الموعود فقال كبيرهم ان هذا الطفل سيكون ذا شأن عظيم فهو اذ اختار المُلك كان ملكاً عظيماً واذا اختار الزُهــــــد كان نبياً عظيماً.
وكذلك وفد مع الكاهـــن رجل صالح من الزهاد وطلب رؤية الطفــــــل فلمـــا راءه وتعرف على شارات العظمة وعلاماتها كما جأءت في الكتـــــــــــب المقدسة ضحك سرورا ثم بكى اسا. ولما سُئل عن سر بكائه وضحكه في آن قال لقد ضحكت سرورا لان هذا الولـــــيد ســـوف يبلغ الاستناره ويدير عجلة الشريعة اما البكاء ذلك لاني قد استنفذت ايامي وسوف لا يمتتد بي العمر طويلا حتى اراه وقد ســــلك الطريــــق.
واطلق المولــــد اسم "سدهارتا" ومعناه الذي تم به المــــراد وعرف فيما بعد باســــم (غوتاما) وهو اسم الاســـــــرة.
ونشــــأ الامير "سدهارتا" في قصر ابيه محــــاطا بكل اسباب النعــــــيم مما لا يتاح إلا لأمثاله من ابناء الملوك. وحرص ابـــوه ان يهيئ له كل أسبـاب السعادة ويباعــــد ما بيــنه وبيــن مظاهر الشقــاء.
وكانت للاميــر ثلاثة قصور واحد للصيف وثاني للخريف وثالث للشــــــتاء ولما بلغ السادســــة عشــــر من العمــــر زوجـــه ابوه باجمــــــل الغنـــيات واعلاهن شـــرفا في القبيلة.
وهكذا ســـارت حياة الاميـر في القصر على هذا المنوال حتى اوتي على الثلاثين. وذات يوم تجاوز الامير اسوار القصر وســــار في شوارع المديـــنة فصـــــادف في طريقة شيخــــا مســـنا يئـــن تحت عبء السنين ثم شـــاهد بعدها رجلا مريضا اضناه المرض الطويــــــل ثم لقى بعــــد ذلك ميتــــا يحملــــــه اهلـــه الى ارض النيران. فامتلأ قلبـــه حزنا لما يلقاه الإانسان من الشقاء والعناء وهو مربوط بعجلة الحياة التي لا تكف من الدوران فتنتقـــل بالناس من المولد الى الهرم الى المرض ثم الى الموت ثم الى المولد من جديــــد.
وانشــــــغل فكره في البحـــث عن الخــلاص من هــــذا الشقــاء الطويـــل وحدث ان التقى بعد حين بزاهــد عابـــد حســن السـما مطمئن الحال. فسأله عن حالــه فعلم من انه قد خرج من العالــــم بحثـــا عن الحـــق. وكانت هذه المشاهد المتتالية بمثابة المفتاح الذهـــــبي الذي فتح له باب التأمل الطويـــــــل وحبب اليــــه الزهـــد والخروج من عالــــم المســـــرات الى عالم التأمل والســـلوك في طريق الناسكين.
وفي هـذه الفترة الحاســـمه من حياته جاءه النبـــأ بانه قد رزق غلامــــأ ذكرا فقال في نفســه ان هذا وثـــاقا جديـــــدا سيربطني بالدنيـــــا. اما ابــــــــوه الملك فقد سر بالمولود الجديــــد ورأى فيـــه رباطــا جديدا يشــــد الامير الـــى الملك والدنــــيا فســــماه "راهولا" والكلمه تعنى "الرباط" او" الوثاق".
ولكن الامير سدهارتا كان قد اعتزم في نفســـه امراً. فما انتصف الليل او كاد ينتهى. حتى دخل الى غرفة زوجته فالقـــى عليــهـا وعلى وليــدها نظـرة وداع ثـــم خرج من بوابـــة القصــــر وامتطــى جواده وحث السيـــر الى خارج حدود مملكـــــــة ابيه فبلغ "مجدلا" عند انبلاج الصباح. وهناك ترك جواده لتابعه وخلع ملابسه الزاهيـــة وقص شــــعره وارتدى ملابس الناسك واصبح من الزاهدين.
نســــــكه واستنارتـه
وهكــذا بدأ غوتاما حياة النســـك فتتلمذ على كثيرين من الزهاد واخذ منهم
مالديهم من علوم وفلسفات لم تشــــف منه القليـــل
فتركهـــــم واحداً اثر واحـــــد واعتزل الى مكان منفـــــرد بجوار نـــهر جار
وشجروارف ظليل وراح يحى حياة التقشف وتعذيب البدن ولكنــه وجد نفسه بعد ســـت
ســـنوات من هذا العنـــاء في مكانه الذى بدأ منه وانــه لم يبلــــــغ من
تقشـــفه مايريــد ولم يهتد الى طريق الخلاص. فعدل عن التقشف الشديد واتخذ طريقا
وسطا في طعامه وشـــرابه فكان ان تخلى عنه رفقاؤه الخمســـة الذين كانوا قد التفوا
حوله في زهده الاول وعدوه قد انحرف عن طريق
الزهـــــد الصحيح.
واصبح غوتاما ذات صباح وقد نوى الإافطار من صومه وصادف ان جاءته امراة كانت تبحث
ربها الذي وعدتــه بالنزور فقدمت له اللبن والعسل فكان افطاره بعد صومه المضنى
الطويل ولما افطر قدمــت (سوجاته) وليدها ليباركه فرنا اليه بعنين ملئتا حنانا
وحبا ثم قال له " ليكن عبء الحياة على كاهليك خفـيفا". وهكذا كانت هذة الكلمات القليلة
الدليل الاول على رســـالته الكبرى التي كانت تكفهـــا نفســـه وكان على وشك اعلان
نبأها للناس. رسالة تخفيف الاعباء عن الناس.
وانصرفت (سوجاته) فجاءه بعدها فلاح بحزمة من عشـــب فافترشهــــا ثم أل على نفســـه ألا يغادر المكان حتى ينبلج له صبح اليقـــــين.
ومرت عليــه في جلســــته ازمات شداد خرج منهــا منتصرا على قوى الشـــر فمـــن الهــزيج الاول من الليل اهل عليه نور العرفان فعرف موالده السابقة وفي الهزيج الثاني منــح العين الســـحرية وفي الهزيــج الثالث عرف مذهب العليـــة وفي الفجــر بلـغ المعرفة الكبرى واشـــرق الكون بالنور.
وعنــد ذلك انشــد غوتاما نشـيد النصــر:-
كم مــن نزل للحياة احتوانى،
ورحت ابحث عن الجانـــــــى،
يابانى هذا البيت من عنــــــــــاء،
وكان سعيـــا مريرًا بلا انتهـــــاء،
لكنني اليوم وجـــدتـــــــــــــك،
وسوف لا ابني لي بيتـا عداه،
لقد تهاوت أعمــدة
الوهـــــــم،
وانهار من اساســــه البناء،
وغدوت التمس الفناء،
وهكذا بلغ الزاهـــد غوتاما درجة الاستناره او العرفان ولقـــب بالبوذا او المستنير. وكان عندما يتحدث عن نفسه يشـــير الى شخصه بكلمه (الطتخاته) وترجمتها " الذي وجد الحق".ومضى المستنير بعد ذلك عدة اســــابيع بجوار شجرة الاستنارة تعرض فيــها لعراك نفسى عنيف مع قوى الشر الثلاثه وهي الانتهـــــاء والكراهـــــية والشهـــوة فهزمها جميعاً.
وفي اخر يوم من الاسبوع السابع جاءه (ساكا) بفاكـهة رمان فافطر ثــم مر به تاجران فعرض عليهما الحقيقة البوذية- لأاول
مرة- فتقبلاها وكانا من اوائــــل المؤمنين برســالته.
وتريث قليلاً يفكر في كيف يتجه برسالته والى من يتجه بها ولكن سرعان ما استقررأيــــه على التوجه الى بنارس ليلــتقي برفاق زهــده الأاول. فلما التقى بهم وعرض عليهم تعالميه امنوا بهــا وقبلوها وسلكوا .
وهكذا ادرك المستنير عجلة الشريعة كما لم يدركها احد من قبل وشاع امره في البلاد. فاقبل عليه الابرار والفجار والامراء والصعاليك الفتاك والنساك والنسوة والرجال. الشباب والشيب. استمعوا اليه واهتدوا بتعاليمه فانضموا تحت لوائه. وجعلوه ملازهم من الفناء.
ومرت سنوات طويلة مليئه بالعمل والتجــوال والكفاح في نشـــر التعالــيم الجديدة وفي توطيد دعائم النســك وتأسيس المناسك حتى بلغ الثمانين من السنـــين.
وفي عام 483 قبل الميلاد وبينما كان في طريقه الى (كوسين اجرا) اشتدت عليه العلة فطلب الى مريده (انانده) ان يهئ له فراشــه بين شجرتين من شجر الســــال الظليل وهناك رقد كلاسد ثم اعطى لتلاميذه اخر تعالميه اذ قال:-
"والان ايهـــا الرهبان ليس
لدي من شيئ اقوله لكــــــم
كل مركب الى انحلال
فاعملوا على خلاص انفسكم بجــــد"
هذا مايقوله التاريخ وكتب الســـير عن الثمانين عاما التي قضاها المستنير على الارض. ومايقوله التاريخ وتقوله كتب الســـير قليل جمعناه في هذه السطور. اما حياته او حيواتــه السابقات على الاستنارة وهو في طريقه اليــــها فترتد الى ماضى بعيد لا يعد بالســـنين. اما اثار تلك الاعوام الثمانين في حياة الملايين من البــــــشر الذين اهتدوا باستنارته وتمتد كذلك الى اماد لا تعد بالسنين.
وخلاصة القول ان في غوتاما الزاهد المستنير قد تمثلت روح الهند اصدق تمثيل في تعاليمه التي تدعو الى الحب والسلام والرحمة باالمخلوقات جميعا وتمثلت خصائصها في تاريخها القديم والحديث.
وانت اذ تتطلع الى تمثاله "الرخاء" وهو جالس فى جلسته المطمئنة على ورقـة اللوتس ترى فيه اطمئنان وسكون النفس التي طغت على الشهوات والنزوات والغرور وتحس بالسكينة تغمر نفسك والنور يخترق شفاف قلبك ويطرد مافيها من شهـــوات ونزوات وغرور.
لقد اجتمعت في غوتاما المستنير خصلتان ساميتان نادرتان قلما اجتمعتا لمخلوق فكان غوتاما صاحب العقل النير الذي يناقش ويقنع بالحجة والمنطق الصــــادق البصير. وكان كذلك صاحب القلب الواســع الذى امتلأ حباً وحناناً على الكائنات وعلى من حوله فاقبلوا اليه خاشعين. لقد ترك غوتاما الامير مملكة ابيه. مملكة صغيرة في شمال الهند. شاهد زوالها قبل موته. تركها التماسا للحق وللنور. فكافاءه الحق بان توجه على مملكة ينطوى تحت لوائها الملايين تلو الملايين.
كل الاشياء تؤول الى الزوال
ولكـــن الحق باق لا يــــــزال
هكــــــذا علــــــــم المستنــــير